الخميس، 22 سبتمبر 2016

22

ها قد بلغت ال22 من عمري وقد ذهبت المراهقة وجنونها وبقي الإرهاق والتعب. لو نظرت إلى ال22 سنة الماضية في حياتي وأردت أن أختار اللحظة الفارقة في حياتي التي غيرت مجراها بشكل جذري لقلت دون تردد أنها الربيع العربي بامتياز. الربيع الذي كان على حين غرّة، رومانسيا عارما، وباعثا على الدهشة والأمل والألم. رافقت أحداث سيدي بوزيد والبوعزيزي رحمه الله منذ اللحظات الأولى متابعا على تويتر وهاشتاغ #SIDI_BOUZID التاريخي وقضيت الساعات الطوال أمام الجزيرة أتابع انتقال المظاهرات إلى القصرين ثم إضراب المحامين ثم مظاهرات العاصمة تونس، لم أكن أتصور أن أسمع المذيعة على المباشر تقول أن حاكما عربيا قرر مغادرة البلاد خوفا من ثورة شعبه. صوت الرجل الذي يصيح أن "هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية" وأخوه الذي يكسر حظر التجول وحظر الكلام الذي دام لعشرات السنين في تونس وهو يصرخ "بن علي هرب بن علي هرب" لن يمحى من الذاكرة ما حييت. قد يقضي الزهايمر على أجمل ذكرياتي مع من أحببت، ولكنه لن يقضي على التاريخ الذي شاهدته أمامي، المصري وائل غنيم وهو ينشر تلك التويتة معلنا أن التاريخ سيكون 25 يناير، معلنا انتقال المشعل من تونس إلى مصر. لذلك من المؤكد أنني لا أحب انحرافات وائل غنيم في مشهد 30 يونيو ومابعده والتيه الذي هو فيه الآن، لكنني لا أستطيع أن أكرهه أبدا وهو الذي كان أحد أوجه ثورة ال25 يناير الخالدة. أحب مصر بشعبها وثورتها ونكتها عبقريتها وأحمد خالد توفيقها، وذاك اليوم المشهود الذي تابعت فيه أحد أحرارها وهو يصعد أعلى سفارة الصهاينة لينزل عنها علمها الدنيء وسط دموع وفرح الجميع. مصر الفوضى والتقدم خطوة والعودة عشر خطوات إلى الوراء، مصر بأحداثها وإعلاناتها الدستورية اللامنتهية التي ترغمك على دراسة القانون الدستوري تارة لتفهم عما يتحدث القوم، وتارة تدفعك لدراسة شيء من الإقتصاد لتفهم لماذا يحدث قرض البنك الدولي كل هذا الفزع. كانت أحجار الدومينو متسارعة ومن خلالها نكتشف وطننا العربي وبقاعنا المسلمة، من ليبيا تحفظ أسماء طرابلس وسرت وبن غازي إلى اليمن وصنعاء وتعز وعدن إلى سوريا ودرعا وحماة وحلب وحمص وأريافها وغوطتها، لكل بلد حكايته ونظّارته التي تلبسها إذا أردت أن تفهم ما يجري هناك، لا يمكنك فهم ما يحدث في ليبيا واليمن إذا كنت تجهل القبائل الكبرى المكوّنة لهذا البلد، ولا يمكنك فهم أدنى ما يجري في سوريا إذا لم تكن تملك نظرة عن أبرز الفصائل الإسلامية الحديثة ورأيها في قضايا محورية كالحدود والجهاد وعلم الثورة، وفوق كل هذا، الجهة الخارجية الداعمة لهذا الطرف أو ذاك. ولا أنسى فلسطين، فقد كان من البديهيات بالنسبة لي أن كل هذا الحراك أوّلا وأخيرا كان يصدّ وجهه قِبَل فلسطين.
لقد دفنوا أحلامنا الشخصية، هكذا كانت ردة الفعل بعد الإنقلاب في مصر، لم يكن مجرد حدث عابر آخر أو خبر آخر في التلفاز، لقد كان الأمر شخصيا إلى أبعد حدّ. كيف لا وقد كانّا في شجار يومي مع كل من كان يتّهم ثورات الربيع بأنها من تدبير أمريكي صهيوني؟ ونحن الذين كنا نعقد عليها آمالنا لأحياء ما تبقى من حلم الوحدة؟ الصفعة الأولى وقد كانت الأشد ألما كانت رابعة، والثانية كانت فوز السبسي في انتخابات تونس. موجة من الردّة عصفت ببلادنا ولازلنا فيها، لكن الربيع لم يرسو بعد على شاطئ ولم يستقر على حال، ولابد لليل أن ينجلي، ولابد للقيد أن ينكسر، كما قال ابن تونس، ولعله أدرى، فمن عند أهله انطلق هذا كلّه. 
والجزائر بعيدا عن كل هذا، تراقب وتنظر غير مكترثة، لا مكان في قلوب الجزائريين لقطرة دم إضافية، ليس هنالك دمعة واحدة إضافية للبكاء على شهيد آخر! أكثر من قرن من العذاب، ثم عشرية سوداء، يمكنك أن تتفهم صديقك الذي لم يعد يأبه إن كان سيعيد السنة أم لا بعد أن أجرى عشرات الإمتحانات، لا طاقة له بقراءة حرف واحد إضافي. إمتلأ الكأس عن آخره، عد إليّ بعد عشر سنين وربما أنظر في الأمر! كأن الجزائر قالت. من الصعب أن لا ترى المشاكل كلها مسامير إذا كنت مطرقة، ومن الصعب أن لا تنظر إلى كل مشاكل الدنيا على أنها نتاج الإستبداد -بشكل أو بآخر- إذا كنت قد فتحت عينيك على الثورات العربية. 
وقد يضيق العُمر إلا ساعة *** وتضيق الدنيا إلا موضعا.

الجمعة، 20 مايو 2016

مسودات لم تجد طريقها إلى النور

منذ مدة طويلة لم أكتب في هذه المدونة، وجدت أن الكثير من المسودات تراكمت دون أي نية للعودة إليها لإكمالها، لذلك سأنشر بعضا منها، بعضها به كلمة واحدة مثل "الإنبهار، مكتوب" وأشياء أخرى غير مفهومة، وبعضها بها جملة واحدة كتبتها منذ سنوات لذلك نسيت ماكنت أقصد بها أو ما الموضوع الذي أردت الحديث عنه. هاهي بعض هذه المسودات:

المسدوة 1 بعنوان "التدوينة السخيفة التافهة":
كلما كتبت تدوينة حصلت على عدد كبير من الزيارات وانتشرت في الشبكات الإجتماعية، أفكر في كتابة تدوينة بعدها مباشرة، تدوينة سخيفة تافهة، حتى يخفّض الزوار الجدد من سقف طموحهم ولا يعتقدوا أنهم اكتشفوا حكيما جديدا يقول كلاما عميقا، أي أي شيء من هذا الهراء..لذا بما أن التدوينة السابقة كانت من النوع الذي ذكرته فوق، فهذه هي التدوينة السخيفة التافهة!

المسودة 2 بدون عنوان (الكثير من المسودات تخليت عنهم قبل أن أضع لهم عنوانا)
كلما كبرت، كلما صار القيام بالأشياء المجنونة الغبية أصعب. كلما كبرت، مع كل حدث محوري في حياتك، يصبح توقّفك أمام منشورات tumblr أطول، إذا كنت قبل 4 سنوات تتوقف أمام صورة ما لـ 0,01 ثانية، فأنت الآن تتوقف أمامها لثانية واحدة، تبحث عن عمق ما في كل هذا، تنظر لتلك العبارة التي تتكرر في تلك الأغنية أو ذاك الفيلم بطريقة مختلفة، في السابق كنت تمرّ عليها قائلا " نعم حسنا حسنا، كان عليهم أن يملؤوا الفيلم بـاقتباس "quote" من أجل أن يجد جماعة تويتر شيئا يغرّدون به"

المسودة 3 بدون عنوان (كتبتها بعد انتشار صورة الطفل السوري على الشواطئ التركية ولم أنشرها)
الصورة المنتشرة للطفل السوري الذي قضى غرقا على شواطئ تركيا أصابتني في مقتل، اختصرت الصورة لوحدها الآلاف والآلاف من الكتابات والمقالات عن الجنون والرعب المنتشر في بلادنا العربية وعن انتشار الدماء والذبح بحيث صارت صورها لا تؤثر فينا أبدا وكأننا صرنا أطباء جرّاحين تستدعي مهنتنا البرود ووضع المشاعر جانبا. الصورة في رمزيتها تتجاوز المأساة السورية لتحكي أيضا مأساة البلدان المطلة على البحر الأبيض المتوسط كمصر وليبيا والجزائر والمغرب، تلك البلدان البلدان المليئة بالثروات الباطنية والبشرية ومع ذلك يهبّ أبناؤها ليلقوا بأنفسهم وأولادهم إلى زوارق الموت لعلهم يجدون شيئا من الحياة في الضفة الأخرى. ذاك الطفل الملقى على الشاطئ التركي هو طفل جزائري أيضا، فقط لم تصله كميرات الصحافة لتحكي لنا قصته، فالجزائر كان لها نصيب كبير من المهاجرين على زوارق الموت، الكثيرون يدفنون في القبر الأبيض المتوسط كما يسمى، وبعضهم يصل سالما إلى الضفة الأخرى..مما يشجّع المتردّدين على ركوبه.

المسودة 4 بعنوان "عن الرجل الذي حكى لنا عن المريخ بينما لا نجد حليبا في السوق" هذه المسودة لا تملك أي محتوى فقط العنوان، كنت سأتحدث عن زيارة العالم "نورالدين مليكشي" لجامعتي وإلقائه محاضرة عن المريخ، وتزامنت المحاضرة مع أزمة في الحليب، وهذا ما أنتج ذاك العنوان الغريب.

المسودة 5 بعنوان "آه يا سنة بنت عرص" ولا تحتوي أي مضمون، كتبتها في آخر يوم في سنة 2015. على مايبدو كنت مكتئبا حينها.

المسودة 6 بعنوان "أشياء علينا القيام بها"
هنالك عدة أشياء علينا القيام بها، لكننا نتجاهلها ونتظاهر بأننا لا نراها، لكننا في قرارة أنفسنا نعلم بأنها تتبعنا أينما ذهبنا، في أسوء السيناريوهات: تمنعنا من النوم..أما في أحسن السيناريوهات فهي تزعجنا..
اكتشفت أننا كائنات نكره الإزعاج، لكن هل تعلم ما الذي نكرهه أكثر من الإزعاج؟ إنه النشاط..أنا على الأقل كائن يعشق الكسل، مثلا إذا اكتشفت أن هنالك حجرا في حذائي فسأفضّل العذاب الذي سيسببه لي طيلة اليوم (aka عذاب) على أن أسرق دقيقة أو دقيقتين لنزع
====================
كما ترى أغلب المسودات كئيبة تافهة أو غير مكتملة أو أنني تكاسلت عن إكمالها، وغالبا لن تجد أبدا طريقها إلى النشر لذلك وضعتها هنا.

الأحد، 15 مايو 2016

لماذا أحب UBUNTU ؟

لماذا أحب ubuntu والمصادرالمفتوحة عموما؟
دعك من الجانب الأخلاقي والتقني من الأمور، أكثر شيء يعجبني فيه بدون منازع هو "المجتمع المتعاون". عندما كنت "ازرق" قبل 7 سنوات أو ماشابه كنت أكتب جملة بالإنجليزية بشق الأنفس وبالإستعانة بالكثير من ترجمة قوقل، احتجت شيئا معينا في ubuntu ولم أدرِ من أسأل فبحثت عن أحد المنتديات الإنجليزية المهتمة بubuntu وطرحت سؤالي، أجابني أول شخص وحل مشكلتي بالتفصيل وبقي معي حوالي ساعة كاملة حتى حلت المشكلة نهائيا (مشكورا وسالما غانما أينما كان، ونسأل الله أن يهديه للإسلام :)  ) .. ثم في نهاية الرسالة نبهني على خطأ في الرسالة التي كتبتها أنا لم أدر فضاعتها في حينها، لكن كلما أتذكرها الآن أموت خجلا! 
كنت أشاهد الكثير من أفلام MBC2 في تلك المرحلة وكنت أعتقد أن الجملة التي يُفتتح بها الكلام هي "Hey guys"....لكن وكما قلت إنجليزيتي كانت أسوء من عربية سلال وبن غبريط كتبت guys باستبدال الu بحرف الa، ولك أن تدرك كم سيتغيّر المعنى وحجم الفضيحة!! الحمدلله أن مجتمع ubuntu لم يعتبرها إهانة كما قد يفعل الموسوسين الذين نعيش بينهم، بل أجابوني وحلوا مشكلتي ثم نبهوني للخطأ الإملائي الفضيع وانتهت القصة هناك.
أنا أحب Ubuntu.

السبت، 14 مايو 2016

سلطة محركات البحث

من يمتلك الإعلام، يمتلك الرأي العام.
لكن ماهو الإعلام؟ هل هو الجرائد والقنوات التلفزيونية فقط؟
==================================
قرأت في موقع "صحيفة التقرير" مقالا عن كيفية توجيه آراء الناس عبر الإعلام الجديد، وبالذات محركات البحث من خلال التلاعب بنتائج البحث. تخيل أنك كلما بحثت في قوقل عن شخص معين، لنأخذ "جورج بوش" كمثال فلا يُظهر لك قوقل إلا أعماله الخيرية الكثيرة في محاربة الإيدز في إفريقيا (وهي حقيقية بالمناسبة) وكيف أنه كان أكثر رئيس أمريكي ساعد القارة السمراء في مكافحة الأمراض والأوبئة الفتاكة من خلال تخصيص ميزانية كبيرة لذلك. تخيل مثلا أن الصفحة الأولى من نتائج قوقل تظهر كل هذه الأخبار الجيدة وإحدى النتائج هي فيديو على يوتيوب لإحدى زياراته في إفريقيا حيث يلعب مع الأطفال الآفارقة ويداعبهم ويرقص معهم .. إلخ، إذا لم تكن مطلعا عن كثب ولا تتابع السياسة كعادة أغلب الناس فستكون لك صورة جد إيجابية عن هذا الشخص، تخيل أن محرك البحث لن يظهر لك النتائج التي تتحدث عن كيف أن إعلانه الحرب على العراق أدى إلى مقتل ما يقارب مليون عراقي، إحدى أكبر المجازر بعد الحرب العالمية الثانية بسبب هجمات ال11 من سبتمبر التي لم يشارك فيها عراقي واحد. لن يذكر لك قوقل آلاف القنابل التي سقطت على الناس في بغداد و البصرة و الفلوجة وغيرها، والنساء التي رملت والأطفال التي يتمت. ثم إذا بحثت عن أفلام عن هذا الرئيس مثلا لايقترح عليك Goolgle إلا أفلاما تمجّده وتنقل الحرب العراقية من منظور أمريكي يتعامل مع العراقيين كإرهابيين ذوي لحى طويلة كما تصور هوليوود المسلمين دون إعطاء الصورة الحقيقية وهي أن هؤلاء يدافعون عن أرضهم.

 كيف ستكون وجهة نظرك بالنسبة إلى هذا الشخص؟ أكيد ستعتقد أنه من أطهر من أنجبت الأرض، لذلك محركات البحث إحدى أخطر وسائل تشكيل وعي الشعوب في العصر الحديث. هذه الفكرة ظهرت في مسلسل "house of cards" أيضا، حيث استعمل أحد المترشحين للرئاسة وسيلة التلاعب بنتائج البحث من أجل تلميع صورته، هذا المسلسل يقوم عليه كتّاب عباقرة يعرفون جيدا ماذا يفعلون، لذلك ليس من المستبعد أن تكون الإنتخابات الأمريكية التي تجري حاليا قد تم التأثير عليها بمثل هذه الوسيلة.
محرك قوقل يحصل على 11 مليار بحث في الشهر، و93% من أي تجربة في الأنترنت تبدأ إنطلاقا من قوقل. هذا عدد هائل ومعلومات أضخم من أن تتاح لشركة واحدة (وأمريكية بالذات) تسمح لها بأن تشكل وعيا وتغيّر آراءا لشرائح واسعة من البشر.. ونعلم أن قوقل لن تتوانى في إعطاء معلوماتك الشخصية لأجهزة الأمن الأمريكية إذا احتاجت ذلك كما ظهر ذلك في فضائح وكالة NSA. لذلك ينبغي على الجميع، أكثر من أي وقت مضى، البحث عن الحقائق من عدة مصادر، وتنويع مصادر تلقي المعلومات قدر المستطاع حتى لا يتم التلاعب بالحقائق التي تصل إليك لتشكل الأفكار التي يريدها طرف معين أن يوصلها إليك.
الإنترنت والإعلام الجديد صار أداة من أدوات الإستعمار الفكري أكبر من أي وقت مضى.

الاثنين، 7 سبتمبر 2015

Death

الموت.
كلمة لها ما لها من هيبة ورهبة وخوف، ما إن تنطق هذه الكلمة في مجلس حتى تحس بالخشوع والصمت احتراما لهذا الأمر الجلل.. مهما ادعيت أنك "تتفهم" حزن شخص ما على فقده عزيزا، فأنت غالبا لا تملك (أدنى) فكرة عن الموضوع حتى تختبره، تعتقد أنك لن تختبر موت شخص عزيز عليك؟ أنا أيضا كنت أظن ذلك، فمثل هذه الأمور "الدرامية" تحصل لـ"الآخرين" فقط، وأنت لست منهم صحيح؟ للأسف، أريد أن أخبرك بأنك لن تفقد أي شخص عزيز عليك، وأنهم سيكملون معك المسيرة حتى .... نعم ؟ أكمل الجملة ! حتى الموت. فالموت حق، صدقني، أريد أن أخبرك بأنني أيضا كنت أعتقد أن المقربين إلي "معصومون" من هذا الأمر، لكنه لا يستثني أحدا.

هل تعلم ما هو أسوء شيء في موت شخص قريب منك؟ أنت تفقد كل يوم جزءا منه، كل يوم تنسى كلمة قالها، كل يوم تنسى موقفا، تنسى طريقته في المصافحة، والصوت الذي يصدره عند شرب الماء، وماهي أول عبارة يجيب بها على الهاتف، وما هي ردة فعله عندما يفائجه أحدهم، وكيف يمسك القلم ويحكّ به رأسه إذا صادف معادلة رياضية مستعصية..في كل لحظة وهو بعيد عنك تنسى شيئا بسيطا من هذا كله، وأنت تعلم أنه سيأتي يوم لا يبقى من ذكرياتك مع هذا الشخص سوى موقف مضحك أو موقفان..وهذا محزن بشكل فضيع، تحاول أن تمنعه بشتى الطرق لكن هذا يوفق قدرتك، ليس بيدك، إنه يندثر.. ذاكرتك تخونك، يبدأ عقلك في ملئ الفراغ الذي نتج عن فراقك له بأشخاص آخرين، بنشاطات أخرى، تحاول أن تمنع ذلك لكنه يفوقك، فالطبيعة تأبى الفراغ.

الحياة وقِحة، تخيّل أن رغم هذا المصاب الجلل، "الحياة تستمر"، يقولها الناس على سبيل المواساة، ولا أدري حقيقة أين المواساة هنا؟  لازال عليك أن تستيقظ باكرا وتذهب إلى عملك! لازال هنالك فواتير يجب أن تسدّد، ودروس ينبغي أن تُراجع، وقمامة يجب أن تُرمى..! ورغم الألم الذي يعتصرك، ينبغي أن تبتسم في وجه البائع، ومازال يعاملك بفضاضة..
ماذا تعني بقولك أن "الحياة تستمر" ؟ .. هكذا ببساطة؟ يعني تخيل أن شخصا ما فقد كل المقربين إليه في حادث ما...ثم تخبره بـأن "الحياة تستمر" .. هل هذا شيء جيّد ، أكيد أن الحياة تستمر، لكنها ستكون حياة بنت ستين كلب!

الثلاثاء، 25 أغسطس 2015

راديكالي جدا

خلال كلمة نائب البرلمان الأمريكي "جورج ييمان" في إطار مناقشة تعديل للدستور ينص على تجريم الرقّ/تحرير العبيد الذي كان يسعى الرئيس الأمريكي آنذاك "أبراهام لينكون" لتمريره قال النائب: "رغم أنني أتقزز من العبودية، علينا أن نضع في الحسبان تبعات تحرير 4 ملايين زنجي في لحظة واحدة، ما الذي سيتبع ذلك ؟ حقهم في الإنتخاب!؟ ثم ماذا بعد ذلك ؟ حق المرأة في الإنتخاب!؟". لاتتعجب، فنحن نتحدث عن أمريكا سنة 1865. اليوم يوشك الأمريكيون على اختيار رئيسهم القادم، ومن بين أقوى المترشحين إن لم يكن أقواهم على الإطلاق، إمرأة. كيف ينظر الأمريكيون اليوم إلى مسألة العبيد أو حق المرأة في الإنتخاب؟ طبعا يرونها على أنها مسألة واضحة لا تستدعي حتى النقاش، فلا يفتح أحد النقاش حولها إلا وصف بالرجعي المتخلف. لم يكن الوضع دائما هكذا، فالرئيس "لينكون" كان يوصف بالمجنون عندما أراد تمرير تعديل الدستور، بل يمكن القول أن الموضوع الرئيسي الذي دارت حوله الحرب الأهلية الأمريكية كان حرية العبيد، ولم يجمع الأغلبية اللازمة في الكونغرس لتمرير التعديل إلا بالكثير من الصراعات والتجاذبات السياسية، بل إن التعديل كاد أن لا يمر حيث كان يحتاج المعارضون لمجرّد صوتيْن اثنين حتى يعتبر التعديل باطلا. قبل أن تتهمني بأنني مدّع للثقافة إعلم راعك الله أن هذه المعلومات استقيتها من فيلم Lincoln 2012 وتأكدت منها عند العم google.. أي أنني لا أدعي أنني مطلع على تاريخ تعديلات القانون الأمريكي ولا التاريخ الأمريكي ولا كتابات الآباء المؤسسين الموجودة صورهم على الدولارات الأمريكية بأي حال من الأحوال، لقد أردت فقط أن أستخلص من التاريخ بعض العبر، وأحاول أن أخرج منه بشيء.

في الجزائر وقت الإستعمار، كان هنالك شخص مجنون، ربما بنفس قدر جنون "ابراهام لينكون" الأمريكي وربما أكثر، ففي الوقت الذي كانت تطالب فيه كل القوى السياسية الجزائرية بتحسين شروط الإستعمار وأقصى طموحهم هو المساواة في الحقوق بين الأهالي أو "المسلمين الفرنسيين" (هكذا كان يسمى الجزائريون) والفرنسيين الأوروبيين، كان ذاك الرجل ذو اللحية الطويلة واللباس اللافت يطالب بالإستقلال التام للشعب الجزائري وشعوب شمال إفريقيا عامة، هذا الرجل هو مصالي الحاج. كان يعتبر في وقته راديكاليا متطرفا مجنونا، يطالب بالمستحيل، وكان الجميع يحثونه على التريث والتراجع، وأن التوازنات العالمية لا تسمح، وأن فرنسا لن تقبل أبدا بهذه المطالب، وأن آراءه تزيد الأمور تعقيدا بدل أن تمدّ "جسور الحوار" بين الأهالي/المسلمين وبين المستعمر، فرنسا. في الوقت الذي كان المجنون "مصالي الحاج" ينادي بهذه الآراء المتطرفة التي كانت هي النواة الأولى للثورة التحريرية فيما بعد كانت شخصية كبيرة مثل "فرحات عباس" تقول بكل صراحة، وفي تطابق تام مع السردية الإستعمارية،  أن الأمة الجزائرية المتخيلة غير موجودة لا في الواقع ولا في صفحات التاريخ. في ذلك الوقت لم يكن رأي "فرحات عباس" شاذا أو غريبا على الساحة بل كان هو السائد في الأوساط الثقافية والسياسية (الجزائرية!) على اختلاف توجهاتها حتى الإسلامية منها (جمعية العلماء)، وكان مطلب مثل مطلب المساواة أمرا واقعيا لا مفرّ منه، وفي المقابل كانت آراء "مصالي الحاج" مغضوبا عليها من طرف السلطات الإستعمارية ومن طرف الكثير من المثقفين الجزائريين، ماعدا قلّة قليلة من المجانين الذين سيفجرون الثورة فيما بعد، لكن المجانين دائما هم من يرفعون سقف المطالب، وسقف الأمل.

حسنا، بعد أن أبهرتك بمعلوماتي عن الحرب الأهلية الأمريكية ونثرت في المقال أسماء لشخصيات تاريخية هنا وهناك تنمّ عن ثقافة عميقة واطلاع موسوعي، ما الفكرة التي أريد الوصول إليها؟
 في كثير من محطات التاريخ، وفي معارك أخلاقية كبرى تكون الحقيقة كالشمس ظاهرة ساطعة في كبد السماء، رغم ذلك لا يراها الجميع، بل ينكرها الكثير من أصحاب السرائر النقية، ولولا تلك القلّة المجنونة، لولا تلك القلّة التي اقتدت بالصبي الذي صرخ أن الإمبراطور عاري الجسد ، لما رأيناها. الجميع اليوم يؤمن طبعا أن من البديهي تجريم الرقّ، وأن انتخاب المرأة حق ليس قابلا للنقاش أصلا، وأن حرية البلدان المستعمرة أمر مشروع، لكن ذلك لم يكن كذلك في تلك الأوقات، لذلك نحتاج الفئة الراديكالية المجنونة، حتى تذكّر الأباطرة أنهم عاروا الجسد مهما صفق لهم الحواشي والخدم. في نهاية المطاف، وعندما ظهرت الشمس وانقشع السحاب، صَوّت "جورج ييمان" (الرجل المذكور في أول المقال إذا كنت نسيت) لصالح تعديل "لينكون" لتحرير العبيد مُخالفا أوامر حزبه، وانضمّ فرحات عباس إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية، واعترف الجميع أن الأمبراطور كان عاريا.

السؤال الذي يؤرقني هذه الأيام، هل ستلعننا الأجيال القادمة كما نلعن اليوم من وقفوا ضد حرية السود في أمريكا وضد حرية الشعب في الجزائر، هل سيتهموننا بأننا كنا عميانا رغم أن الشمس اليوم ساطعة؟ هل سيشتموننا سرا وعلانية لأننا صفّقنا للإمبراطور الأبكم المقعد، وهل ستأتي اللحظة التي تظهر فيها الحقيقة جليّة فتُدخِل جميع أصحاب السرائر النقية في خندقها مثلما حصل لجورج ييمان وفرحات عباس؟ غالبا لن أكون حيّا لأشهد تلك الأيام، لذلك لا داعي للقلق أكثر.